الأسواق العمانية القديمة والحياة الاجتماعية
(1)
لبس جــــدي ملابسه المعتادة "الدشداشة العمانية والعمامة" ثم تمنطق بخنجره ، ولم ينسى أن يحمل عصاه ، فيما كانت جدتي ترش عليه بعض العطر المنساب من "غرشة قديمة " بها عطر ؛ بكل تأكيد ليس من كريستيان ديور أو من دار كلايفان ، بل الذي أتذكره منها أنها ريحة "ماء ورد الجبل الأخضر الممزوج بالعود الهندي" .
وقبل أن يخرج من المنزل ذات صباح ، ووجهه كله إشراق وفرحة ، سألته : إلى أين العزم يا جدي ؟
أجاب : إلى السوق يابني ؛ فهل تود مرافقتي ؟
قلت له : بكل سرور يا جدي .
فقال : إذن ارتدي ملابسك وهيا معي .
وفي الطريق التقينا بأشخاص متوجهين إلى السوق مثلنا كان منهم شيبا وشبانا وصغارا ، والجميع كانوا يرتدون ملابس جميلة وزاهية .
وفي السوق شاهدنا اشخاصا يفدون إليه على دوابهم "حمير وجمال " ، وما توفر من سيارات ، والجميع كان مرتديا زيا عمانيا ، ومعظمهم كانوا يحملون العصي ويرتدون الخناجر ، فيما كان عدد آخر منهم يحمل بنادق ويتمنطق بالمحزم " مليء بالرصاص " ، وكان الناس سعداء وهم يتبادلون السلام ، ويتصافحون في الأسواق .
فيما كانت النساء يتواجدن بالسوق ، ولكنهن كن يرتدين ملابس محتشمة ، وكن يترددن على محلات البخور والعطور ، فيما كانت فئة منهن يبعن حيواناتهن من الأغنام ، في زاوية من زوايا السوق .
لقد كان هذا هو المشهد الأولي حين نتكلم عن الأسواق قديما ، فقد كان الناس يخرجون من منازلهم أيام زمان هكذا ، لأنهم يعدون الأسواق ملتقى هاما لهم ، فيتوافدون إليها من كل حدب وصوب .
ولذلك اشتهر العرب بأنهم ملوك الأسواق ، ألم تشتهر أسواق صحار ونزوى وعكاظ وغيرها ، ففيها قرض الشعر ، وبيعت منتجات بلاد الشام وغيرها ؟
فيما كان أصحاب البضائع والمنتوجات يجدون فيها فرصة لعرض منتوجاتهم ، وبيعها للناس .
وعودة لأسواقنا ، فقد كانت تستمر نشاطاتها كل صباح من الساعة السابعة ؛ حتى موعد صلاة الظهر ، ويعاد فتحها بعد صلاة العصر ، وتظل نشطة حتى قبيل صلاة المغرب بلحظات ؛ لتغلق بعدها ريثما يحل صباح اليوم التالي .
وكانت روائح الأسواق زكية ، تفوح منها روائح البخور والعطور ، ورائحة الأكلات الشعبية ، والتوابل العطرية .
فيما كانت الأسماك تباع في قسم خاص بها يسمى بسوق السمك ، حيث توجد العرصة ، وحيث يتم البيع من الصباح الباكر ، ومن يأتي متأخرا فعليه الشراء من بائعي السمك ، الذين يسمون بــــ " القماميط " .
وكان يتولى عملية البيع شخص يسمى " الدلال" الذي ينادي لبدء عملية البيع ، وتدون أثمان البيع في دفاتر الدلال ، وقد يفضل البعض الشراء والدفع فورا .
أما بيع الخضروات والفاكهة فهذه تتم على فترتين صباحا في وسط السوق في عرصة الخضروات والفاكهة ، وعادة ما يباع الليمون والطماط والخيار والباذنجان والفجل والجزر والبصل والثوم ، والبطاطس الحلوة والعادية .
أما أبرز الفواكه التي تباع ؛ فكانت المانجو والموز والعنب ، وفي الصيف يكون الرطب والبطيخ بنوعيه .
كما كان يوجد الرمان والبوت الذي يجلب على فترات من الجبل الأخضر .
أما في المساء فيباع البرسيم المخصص للماشية والحيوانات ، في عرصة مخصصة لذلك ، ومعه يجلب المزارعون بعض المنتوجات الفائضة ، لبيعها للناس .
ولذلك كان الناس يجدون رغباتهم ومتطلباتهم في الأسواق متى زاروها .
وكان يحرس الأسواق ليلا ؛ حارس من ذوي البنية القوية ومن أصحاب السيرة الحسنة ، وكان يتلقى أجره شهريا من أصحاب الحوانيت أو الدكاكين بلهجتنا السائدة وفي بعض الحالات كان يخصص لبعض الأسواق أكثر من حارس ، ويمكن الاستدلال عليه بحمله قنديلا يتجول به هو أو مع رفيقه في أرجاء السوق ، ويحمل الحارس في يده عادة عصا غليظة تسمى بلهجتنا " مقشاع " .
ولكن وجود الحراس لم يمنع من وقوع بعض السرقات من حين إلى آخر ، خاصة في الاسواق التي يكون بها حارس واحد ، لكنها كانت حوادث قليلة .
وكان العمانيون شديدوا الفراسة ، فما أن تحدث وقائع سرقة في السوق ، حتى ينشغل مجتمع الولاية بها ، ويعلن مكتب الوالي الطواريء ، وهو السلطة المختصة آنذاك بالأمر الأمني لكل ولاية ، ويتم الاستعانة بشخص يسمى " القافر " ، والذي يمتلك حاسة سادسة ومعرفة بعلم اقتفاء الأثر ، ولذلك قلما كانت السرقات تقيد ضد مجهولين ، حيث كان الظفر باللص يتم بسرعة .
واخترع العمانيون علم التنجيم ، حيث كانوا يستعينون بشخص يدعى " الباصر " الذي كان يتدخل للبحث عن اللصوص ، حين يعجز مقتفوا الأثر عن كشفهم ، وكان الباصرون ، يحدثون الهلع في نفوس الناس ، نظرا لما أشيع عنهم من أعمال ، كعمل " الحورة " التي تؤدي إلى نفخ بطن كل سارق حتى الموت ، مالم يرجع المسروقات لأصحابها . ومن هنا كنا نشاهد إعادة معظم المسروقات في اليوم التالي ، وكأن شيئا لم يحدث . فهي حيلة إذن كان يلجأ إليها بعض الناس ، ومن كانت له حيلة فقد احتال ؛ والغاية كانت تبرر الوسيلة .
ومن غرائب إحدى وقائع مقتفي الأثر ؛ أن لصا سرق "جونية أرز" من أحد أسواق الباطنة ، وحملها على ظهره ثم خرج بها من السوق ، فشاهد القافر أرجل اللص تغوص بشدة في الرمل ، متجها للبحر، حيث ضاعت آثار قدميه في المياه .
ولم يستطع القافر بعد ذلك أن يحدد إلى أي جهة مضى ذاك اللص ؟
بيد أن اجتهاد مقتفي الأثر ، أسفر عن نتائج ، وذلك حين بدأ بتقسيم عمله إلى شقين ، الأول أن يسير على الساحل من نقطة اختفاء الأثر، لمسافة كيلو متر واحد ، والثاني ثم يعود لذات النقطة ويمشي غربا بنفس المسافة معتبرا بأنه من المستحيل أن يمكث السارق في البحر طويلا ، خشية ابتلال الجونية بالماء ، وضياع محتواها من الأرز .
وقد صدق حدسه ، حيث ظهرت الآثارفي الجهة الغربية من الشاطيء ، فشاهد نفس ألآثار تخرج من البحر متجهة نحو البر ، ومنها إلى منزل قريب من الشاطيء ومن ثم قادتهم للص ، الذي ما أن شاهد القافر، المعزز بعدد من العساكر التابعين لمكتب الوالي ، حتى حاول الفرار من المنزل ، لكن فضول الناس وتجمعهم ومساعدات المشايخ ، أسفرت عن القاء القبض عليه .
لقد كان المشايخ يلعبون دورا هاما في مساعدة الولاة في الأمور المتصلة بأمن الولاية ، ولذلك كانت الجرائم محدودة في المجتمع العماني .
وهكذا كان مقتفوا الأثر في المجتمع العماني ـــــ على بساطتهم ــــ يلعبون دورا في ضبط الجناة ، ومساعدة مكاتب الولاة ،
الذين كانوا لا يستغنون عنهم
(1)
لبس جــــدي ملابسه المعتادة "الدشداشة العمانية والعمامة" ثم تمنطق بخنجره ، ولم ينسى أن يحمل عصاه ، فيما كانت جدتي ترش عليه بعض العطر المنساب من "غرشة قديمة " بها عطر ؛ بكل تأكيد ليس من كريستيان ديور أو من دار كلايفان ، بل الذي أتذكره منها أنها ريحة "ماء ورد الجبل الأخضر الممزوج بالعود الهندي" .
وقبل أن يخرج من المنزل ذات صباح ، ووجهه كله إشراق وفرحة ، سألته : إلى أين العزم يا جدي ؟
أجاب : إلى السوق يابني ؛ فهل تود مرافقتي ؟
قلت له : بكل سرور يا جدي .
فقال : إذن ارتدي ملابسك وهيا معي .
وفي الطريق التقينا بأشخاص متوجهين إلى السوق مثلنا كان منهم شيبا وشبانا وصغارا ، والجميع كانوا يرتدون ملابس جميلة وزاهية .
وفي السوق شاهدنا اشخاصا يفدون إليه على دوابهم "حمير وجمال " ، وما توفر من سيارات ، والجميع كان مرتديا زيا عمانيا ، ومعظمهم كانوا يحملون العصي ويرتدون الخناجر ، فيما كان عدد آخر منهم يحمل بنادق ويتمنطق بالمحزم " مليء بالرصاص " ، وكان الناس سعداء وهم يتبادلون السلام ، ويتصافحون في الأسواق .
فيما كانت النساء يتواجدن بالسوق ، ولكنهن كن يرتدين ملابس محتشمة ، وكن يترددن على محلات البخور والعطور ، فيما كانت فئة منهن يبعن حيواناتهن من الأغنام ، في زاوية من زوايا السوق .
لقد كان هذا هو المشهد الأولي حين نتكلم عن الأسواق قديما ، فقد كان الناس يخرجون من منازلهم أيام زمان هكذا ، لأنهم يعدون الأسواق ملتقى هاما لهم ، فيتوافدون إليها من كل حدب وصوب .
ولذلك اشتهر العرب بأنهم ملوك الأسواق ، ألم تشتهر أسواق صحار ونزوى وعكاظ وغيرها ، ففيها قرض الشعر ، وبيعت منتجات بلاد الشام وغيرها ؟
فيما كان أصحاب البضائع والمنتوجات يجدون فيها فرصة لعرض منتوجاتهم ، وبيعها للناس .
وعودة لأسواقنا ، فقد كانت تستمر نشاطاتها كل صباح من الساعة السابعة ؛ حتى موعد صلاة الظهر ، ويعاد فتحها بعد صلاة العصر ، وتظل نشطة حتى قبيل صلاة المغرب بلحظات ؛ لتغلق بعدها ريثما يحل صباح اليوم التالي .
وكانت روائح الأسواق زكية ، تفوح منها روائح البخور والعطور ، ورائحة الأكلات الشعبية ، والتوابل العطرية .
فيما كانت الأسماك تباع في قسم خاص بها يسمى بسوق السمك ، حيث توجد العرصة ، وحيث يتم البيع من الصباح الباكر ، ومن يأتي متأخرا فعليه الشراء من بائعي السمك ، الذين يسمون بــــ " القماميط " .
وكان يتولى عملية البيع شخص يسمى " الدلال" الذي ينادي لبدء عملية البيع ، وتدون أثمان البيع في دفاتر الدلال ، وقد يفضل البعض الشراء والدفع فورا .
أما بيع الخضروات والفاكهة فهذه تتم على فترتين صباحا في وسط السوق في عرصة الخضروات والفاكهة ، وعادة ما يباع الليمون والطماط والخيار والباذنجان والفجل والجزر والبصل والثوم ، والبطاطس الحلوة والعادية .
أما أبرز الفواكه التي تباع ؛ فكانت المانجو والموز والعنب ، وفي الصيف يكون الرطب والبطيخ بنوعيه .
كما كان يوجد الرمان والبوت الذي يجلب على فترات من الجبل الأخضر .
أما في المساء فيباع البرسيم المخصص للماشية والحيوانات ، في عرصة مخصصة لذلك ، ومعه يجلب المزارعون بعض المنتوجات الفائضة ، لبيعها للناس .
ولذلك كان الناس يجدون رغباتهم ومتطلباتهم في الأسواق متى زاروها .
وكان يحرس الأسواق ليلا ؛ حارس من ذوي البنية القوية ومن أصحاب السيرة الحسنة ، وكان يتلقى أجره شهريا من أصحاب الحوانيت أو الدكاكين بلهجتنا السائدة وفي بعض الحالات كان يخصص لبعض الأسواق أكثر من حارس ، ويمكن الاستدلال عليه بحمله قنديلا يتجول به هو أو مع رفيقه في أرجاء السوق ، ويحمل الحارس في يده عادة عصا غليظة تسمى بلهجتنا " مقشاع " .
ولكن وجود الحراس لم يمنع من وقوع بعض السرقات من حين إلى آخر ، خاصة في الاسواق التي يكون بها حارس واحد ، لكنها كانت حوادث قليلة .
وكان العمانيون شديدوا الفراسة ، فما أن تحدث وقائع سرقة في السوق ، حتى ينشغل مجتمع الولاية بها ، ويعلن مكتب الوالي الطواريء ، وهو السلطة المختصة آنذاك بالأمر الأمني لكل ولاية ، ويتم الاستعانة بشخص يسمى " القافر " ، والذي يمتلك حاسة سادسة ومعرفة بعلم اقتفاء الأثر ، ولذلك قلما كانت السرقات تقيد ضد مجهولين ، حيث كان الظفر باللص يتم بسرعة .
واخترع العمانيون علم التنجيم ، حيث كانوا يستعينون بشخص يدعى " الباصر " الذي كان يتدخل للبحث عن اللصوص ، حين يعجز مقتفوا الأثر عن كشفهم ، وكان الباصرون ، يحدثون الهلع في نفوس الناس ، نظرا لما أشيع عنهم من أعمال ، كعمل " الحورة " التي تؤدي إلى نفخ بطن كل سارق حتى الموت ، مالم يرجع المسروقات لأصحابها . ومن هنا كنا نشاهد إعادة معظم المسروقات في اليوم التالي ، وكأن شيئا لم يحدث . فهي حيلة إذن كان يلجأ إليها بعض الناس ، ومن كانت له حيلة فقد احتال ؛ والغاية كانت تبرر الوسيلة .
ومن غرائب إحدى وقائع مقتفي الأثر ؛ أن لصا سرق "جونية أرز" من أحد أسواق الباطنة ، وحملها على ظهره ثم خرج بها من السوق ، فشاهد القافر أرجل اللص تغوص بشدة في الرمل ، متجها للبحر، حيث ضاعت آثار قدميه في المياه .
ولم يستطع القافر بعد ذلك أن يحدد إلى أي جهة مضى ذاك اللص ؟
بيد أن اجتهاد مقتفي الأثر ، أسفر عن نتائج ، وذلك حين بدأ بتقسيم عمله إلى شقين ، الأول أن يسير على الساحل من نقطة اختفاء الأثر، لمسافة كيلو متر واحد ، والثاني ثم يعود لذات النقطة ويمشي غربا بنفس المسافة معتبرا بأنه من المستحيل أن يمكث السارق في البحر طويلا ، خشية ابتلال الجونية بالماء ، وضياع محتواها من الأرز .
وقد صدق حدسه ، حيث ظهرت الآثارفي الجهة الغربية من الشاطيء ، فشاهد نفس ألآثار تخرج من البحر متجهة نحو البر ، ومنها إلى منزل قريب من الشاطيء ومن ثم قادتهم للص ، الذي ما أن شاهد القافر، المعزز بعدد من العساكر التابعين لمكتب الوالي ، حتى حاول الفرار من المنزل ، لكن فضول الناس وتجمعهم ومساعدات المشايخ ، أسفرت عن القاء القبض عليه .
لقد كان المشايخ يلعبون دورا هاما في مساعدة الولاة في الأمور المتصلة بأمن الولاية ، ولذلك كانت الجرائم محدودة في المجتمع العماني .
وهكذا كان مقتفوا الأثر في المجتمع العماني ـــــ على بساطتهم ــــ يلعبون دورا في ضبط الجناة ، ومساعدة مكاتب الولاة ،
الذين كانوا لا يستغنون عنهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق